الثلاثاء، 9 سبتمبر 2008

العــــودة قصة قصيرة بقلم: د.نبيـل فـاروق

ثلاث سنوات ..
ثلاث سنوات كاملة لم يطأ فيها فريد أرض مصر منذ أن سافر للعمل بتلك الدوله من دول الخليج العربي
ويالها من فترة..
لم يدر كيف أمكنه أن يقضي كل تلك الفتره بعيداً عن زوجته وأولاده
كيف أمكنه أن يحتمل فراقهم وبعادهم طوال هذه السنوات؟
تنهد بعمق وهو يسترخى داخل سيارة الأُجره التى تحمله من مطار القاهرة الى منزله؛ ويستعيد ذكريات ثلاث سنوات مضت
لم يكن هناك من حل حينذاك لكل مشاكل الأُسرة الإقتصادية سوى أن يقبل عقد العمل في تلك الدولة
الأولاد يحتاجون الى دروس خصوصيه في كل المواد تقريباً
زوجته تشكو متاعب العمل والمواصلات والحياة
حموه بدأ يعلن عن تبرمه من وجودهم معه في منزله؛ على الرغم من أنه يحيا وحده بعد وفاة زوجته؛ وسفر الأولاد الآخرين للعمل في دول أُخرى
ومتاعبه هو الشخصية
حتى علبة سجائره؛ كان يدخر القروش لشرائها
وكان الحل الوحيد هو السفر
وسافر ..
*******
وهناك.. بين آبار النفط ومرارة الغربه وذُل الوحده؛ راح يعمل ليل نهار؛ ويحرم نفسه من كل شىء؛ فيما عدا علبة السجائر الأجنبية الصُنع؛ حتى يرسل الجانب الأعظم من راتبه كل شهر الى زوجته في القاهرة
وبعد العام الأول؛ أبلغته رسائل زوجته أن كل شى أصبح أفضل
الأولاد يحصلون على دروسهم الخصوصية ؛ ولم تعُد هناك مشاكل في المواصلات والعمل
ووقعت الزوجه عقد تملُك شقة جديدة
ضايقه في البداية أنها سجلت عقد الشقه باسمها؛ ولكنه لم يلبث أن تفهّم ضرورة هذا؛ حتى لا يحتاج لكتابة توكيل شامل لها لدفع أقساط الشقة واستلامها؛ وما يستتبع ذلك من اجراءات
وفى أول محادثة هاتفية بينهما أخبرته زوجته أنها دفعت كل ما أرسله كمقدم للشقة؛ ومازالت هناك الأقساط الشهرية الضخمة
وقرر التنازل عن اجازته السنوية هذا العام؛ لتدبير مصروفات المنزل؛ وأقساط الشقة الجديدة
يكفي أن يتحقق الحلم؛ ويصبح لديه شقة خاصة بعد اكثر من 15 عاماً من الزواج
ومضى العام الثاني أكثر مشقة؛ ولكن النتائج كانت أروع مما يتصور
لقد تسلمت زوجته الشقة الجديدة وأثثتها.. وأرسلت اليه صورها المُبهجه؛ وصور أولاده الثلاثه داخلها
ولقد تغيرت هيئة الأولاد كثيراً
أحمد أصبح أطول.. مها ازداد وزنها.. وسامح يبدو أكثر أناقة
ومع أول عائد الى القاهرة من زملاء العمل أرسل للأولاد حقيبة ضخمة تمتلىء بالملابس واللعب.. وأرسل لزوجته حقيبه مثلها
وواصل ارسال اقساط الشقه ومصروفات المنزل؛ واضطر في العام الثاني للتنازل عن اجازته السنويه أيضاً؛ لأن أحمد اصبح في الشهادة الإعدادية ويحتاج الى مزيد من الدروس الخصوصية وزوجته تشكو من متاعب السيارة المستعملة؛ وتلح في استبدالها بسيارة جديدة؛ وأقساط الشقه لم تنته بعد و
ومضى عام ثالث من التعب والكفاح والمهانة
وعندما حان موعد اجازته السنوية الثالثة قرر أن يسافر لرؤية الأولاد وزوجته وشقته الجديدة؛ وقرر أن يفاجئهم بعودته
*******
وعندما أوقف سائق الأُجره سيارته أمام هذه البناية الفاخرة التي يحتل منزله الجديد أحد طوابقها خفق قلبه في سعادة؛ ونقد السائق بقشيشاً سخياً وهو يحمل حقيبته الوحيدة؛ ويستقل المصعد الى شقته الجديدة
وفى المصعد ابتسم في حنان وهو يرسم صورة جميلة للقائه بأولاده وزوجته؛ ويتصوّر سعادتهم بعودته؛ وتأثير المفاجأة الجميلة عليهم
وأمام باب الشقة؛ انتبه لأو ل مرة أنه لا يمتلك مفتاحاً لها فدق جرس الباب وهو يأسف لضياع المفاجاة التي يحلم بها منذ وصوله
ومضت لحظات من الصمت ؛ ثم فتحت مها الباب
ولثوان تطلعت اليه والى ابتسامته في حذر وتساؤل قبل أن تقول في تردد: بابا؟
هتف بكل سعادته لرؤيتها: نعم يامها؛ أنا أبوكي
صاحت: بابا مرحباً بك مرحباً
عانقها في حرارة وسعادة؛ ودخل معها لأول مره الشقة الجديدة
كانت شقة واسعة فاخرة بالفعل؛ كل ركن فيها يشف عن ذوق زوجته وأناقتها
ولكن أين ذهبت صورة زفافهما؟
انتبه فجأة الى أنه لاتوجد له أي صورة في أي ركن بالمنزل؛ وأدرك لحظتها لِمُ ترددت مها قبل أن تصافحه
لقد نسيت ملامحه تقريباً
ثلاث سنوات لم يرسل فيها الى أولاده صورة واحده ولا يرون صوره بالمنزل في الوقت ذاته؛ فمن الطبيعى إذن أن ينسوا ملامحه تقريباً
شعر بمزيج من الأسف والمرارة لهذا؛ وأدهشه أن قادته ابنته الى حجرة الصالون وهى تقول: ستعود أمى بعد قليل
قال مُحتجاً: سانتظرها في حجرتنا
لاحظ تردد ابنته فردد في حزم: أين حجرتنا؟
قادته الى الحجرة في استسلام وكأنها مرغمة على هذا؛ وسألها وهو يُلقي سترته فوق الفراش ويضع حقيبته الى جواره: أين ذهبت أُمكِ؟؟
أجابته في خفوت: الى الكوافير
سالها مرة أخرى: وأين أخواكِ أحمد وسامح؟
أجابته ولهجتها تحمل شئ من الضجر: أحمد عند مدرس الجغرافيا؛ وسامح لم يعد من مدرسته بعد
ثم سألته في لهفة: ماذا أحضرت لنا معك؟؟
أجابها في ضيق: لقد أرسلت لكم أشياء كثيرة الشهر الماضى؛ واليوم أحضرت حقيبتي فحسب
ألقت نظرة مفعمه بخيبة الأمل على الحقيبه وهى تُغمغم: حقاً
قال في حنق: ألا تشعرين بالفرحة لرؤيتى؟؟
ألقت عليه نظرة حذرة قبل أن تقول: بالطبع
قالتها بلهجة خاوية من أية انفعالات ثم غادرت الحجرة وتركته وحده حائراً متوتراً
ماذا أصابها؟
لماذا تتعامل معه وكأنها تستقبل ضيفاً ثقيلاً؟
لم يفهم سر هذا الأسلوب حتى عاد أحمد وسامح في وقت واحد تقريباً.. ولم يكد يعلن عن عودته حتى هتف أحمد: أبى عاد؟!! ماذا أحضرت لنا معك ياأبى؟
وصاح سامح في سعادة: هل احضرت السيارة الصغيرة التى طلبتها منك؟
أحنقه كثيراً اهتمامهم بما أحضره أكثر من اهتمامهم بحضوره فأجاب في عصبية: لا.. لم أُحضر شيئاً
بدت خيبة الأمل على وجهى أحمد وسامح؛ وفتر حماسهما تماماً حتى ان أجوبتهما عن اسئلته جاءت مقتضبة مجاملة كما لو كانا يجيبان ضيفاً أو أحد مدرسيهما
ضاق صدره بالموقف وراح يتطلع الى ساعته في قلق؛ وفي انتظار عودة زوجته ؛ عسى أن يجد في سعادتها برؤيته عوضاً عما أزعجه من لقاء أولاده
*******
واخيراً حضرت الزوجة
أدهشته رؤيتها في البداية؛ بشعرها الأصفر الذهبي المصبوغ؛ وزينتها المبالغة وهي تهتف به: فريد؟! يالها من مفاجأة!! متى وصلت؟!!
صافحها في حرارة وأخبرها أنه وصل منذ قليل؛ ثم سألها: اتصبغين شعركِ؟
ابتسمت قائلةً وهى تتحسس شعرها في زهو: هل يروق لك اللون؟
أجابها مجاملاً: نعم.. إنه يناسبكِ تماماً
كان كاذباً في قوله.. فلون شعرها الذهبي لم يكن يناسب أبدا بشرتها السمرا ء؛ ولكنه آثر الهدوء وعدم الدخول في مجادلات عقيمة؛ وفضّل عدم مناقشتها أمام اولادهما؛ وانتظر حتى ضمتهما حجرة نومهما؛ وسألها: لماذا تصبغين شعركِ؟
قالت في بساطة: الأشقر هو الموضة هذه الأيام
قالتها وهي تخرج حقيبتها علبة سجائر أجنبية التقطت منها سيجارة دستها بين شفتيها المصبوغين وأشعلتها بقداحة ذهبيه؛ فسألها في دهشه: منذ متى تدخنين؟
أجابته في هدوء: منذ عامين
ثم أضافت وهي تنفث دخان السيجارة في عمق: كل نساء الطبقة الراقية تفعلن هذا
هتف في دهشة: الطبقة الراقيه ؟! من وضع هذه الفكرة الغبيه في رأسكِ؟؟
أجابت بحدة: ليست فكره غبية؛ إنها واقع.. ألا تشاهد أفلام السينما؟
لعن أفلام السينما وكل الأفكار العجيبة التى تغرسها في رؤوس الناس؛ وبدأت بينه وبين زوجته مشادة حسمها وهو يقول في مرارة: حسناً ؛ لم أقطع كل هذه المسافه لنتشاجر في أمر كهذا
تلفتت حولها في لهفه وهى تسأله: أين حقائبك؟
أجابها وقد فهم ماترمى اليه: لم أُحضر سوى حقيبتي
هتفت في ضيق: فقط؟؟
أجابها وهو يختنق غيظاً: كان سفراً مفاجئاً سريعاً
قالت في أسف: ياللخسارة
لحظتها أدرك لماذا قضى في الغربة ثلاث سنوات كاملة
..لقد احتمل كل هذا لينساه أولاده
..ليخلو بيته من صوره
..لتصبغ زوجته شعرها وتبدل سيارتها
احتمل الوحدة والعذاب والمرارة والهوان لتنفث زوجته كل هذا مع دخان سيجارتها الأجنبية الصنع
وفى آليّة؛ وبدون أدنى لهفة أو انفعال سألته زوجته: كم ستبقى؟
وبكل مرارة الدنيا في أعماقه أجاب: سأرحل في الصباح الباكر.. لم يعد لى مكان هنا
وكان يعني مايقول
*******

ليست هناك تعليقات: